العنوان الصحيح

المقاله تحت باب  قصة قصيرة
في 
11/08/2010 06:00 AM
GMT



الطريق طويل.. وعلى الجانبين أشجار شامخة جذوعها راسخة في الأرض وأغصانها تلوح في الهواء لسيارات ومارة يتغيرون بين دقيقة وأخرى وهي واقفة في مكانها لاتتغير ولاتغادره الى مكان آخر.. فيبدون حمقى أولئك البشر الذين يتحركون تحتها.. وحلوة.. تلك الفتاة التي تقف على الرصيف تحمل حافظة كبيرة وترتدي تنورة رصاصية اللون تغطي مسافة طويلة فوق رجليها قبل أن تنزل الى قدمها وتلامس حافة حذائها، قالت وهي تنظر الى الاستمارة التي أخرجها الرجل من نافذة السيارة..
- كلا.. ياعم.. انها أمامك بعد نقطة السيطرة بكثير..
أعاد الرجل الاستمارة الى مكانها خلف المقود وخطف نظرة الى نفسه في المرآة ثم سحق دواسة البنزين تحت حذائه من جديد وألقى نظرة أخرى الى الفتاة التي نادته قبل قليل بيا "عم" فوجدها تعدل من وضع الحجاب فوق رأسها وتبدو أكبر سناً من أن تناديه بيا "عم".. ولايلائمها اطلاقاً، اذا كانت تقف هناك بانتظار حافلة تقلها الى  البيت، أن تكون طالبة جامعية في كلية للطب البيطري سيصلها بعد خمس دقائق من الآن..
تثاقل عند نقطة السيطرة بقصد الوقوف ،ولكن الجنود هناك انصرفوا عنه إلى سيارة عامة تسع ثماني عشرة راكباً تتدلى سورة ياسين كبيرة من عنق مرآتها وثمة لغط يدور بين ركابها حال دون الاكتراث به بالرغم من انه قد حاول لفت أنظارهم إليه بأن رفع الاستمارة الموضوعة أمامه وأخرجها من النافذة مستفسراً عن المكان الذي يذهب اليه بتلك الاستمارة.. التفت اليه بعض الركاب.. وبدت الحيرة واضحة على وجوههم.. ولكنهم عادوا الى لغطهم من جديد ولم يسمع إجابة وافية من أحد، غير نداء بعيد يأمره بعدم التوقف هنا.. ولاهناك.. والتحرك من ذلك المكان ،الذي كان أقرب مايكون الى عنق زجاجة تدخل منها السيارات على شكل مجاميع من جهة وتخرج فرادى من الجهة الأخرى.
شمس الشتاء الدافئة ترمي ضوءها من فتحات الغيوم الداكنة على لافتات مرورية زرقاء تسلم على المارة واحداً واحداً وتثرثر لهم بماطرأ على الطريق من مبان ونقاط دالة.. ولاواحدة من تلك التعاريف أفادته ولا تطابقت كلماتها مع الكلمات المكتوبة في أعلى الاستمارة التي بين يديه ،فقرر أن يبطئ في سيره ويتثاقل بعد أن تعبت قدماه من الرواح والمجئ بين الكابح ودواسة البنزين.. وتشنجت من ذلك التريث والتوقف الذي كان يتكرر كلما حانت له لافتة جديدة من لافتات الطريق أو انقضت عليه واحدة من الحفر والمطبات الكثيرة فيه..
السيارة التي تتدلى من مرآتها سورة ياسين اجتازته بسرعة والتفت بعض ركابها إليه وهزوا له رؤوسهم موافقين وضاحكين ،وكأنهم للتو يجيبونه على السؤال الذي سألهم اياه قبل قليل عندما اقترب منهم وضحك ببلاهة واومأ لهم باستمارته في نقطة السيطرة. بعضهم ظل ملتفتاً اليه من النافذة الخلفية للسيارة العامة دونما سبب واضح فخطف الرجل الى نفسه نظرة أخرى في مرآة السيارة الجانبية ورأى في اللحظة نفسها لافتة منصوبة في الجزرة الوسطية للشارع مكتوب عليها: " كلية الطب البيطري يا عم".
التفت إلى حيث يشير السهم الموجود على اللافتة فلم يكن يقف في باب الكلية أحد سوى رجل يحمل مرآة مكسورة عيناه شاخصتان كعيني قتيل.. سبق أن رآه في مكان ما لايذكره ولم يعد يهمه أن يذكره أو أن يدقق كثيراً في تلك الوجوه التي تصادفه أحياناً للمرة الاولى فيعتقد اعتقاداً راسخاً انها قد مرت عليه من قبل أو أن أفعالها قد تكررت في زمان ومكان آخرين.. وطالما حيره هذا التكرار في كل مرة يحدث فيها فيما أكد له صديق حاذق له باع طويل في التأمل والصمت الجميل، أن كل مانفعله في الحياة يحدث  للمرة الأولى وأننا لانمر بالمشهد الواحد إلا مرة واحدة.. هي المرة الأولى والأخيرة.. وهذا غالباً مايجعلنا نقلق كثيراً ونشعر بالخوف من أن يكون مانفعله ليس صحيحاً.. لأنه عندما لايكون صحيحاً سيستحيل علينا تصحيحه في مرة جديدة، مع ذلك فانظر في نهاية المطاف ما أقل الصحيح وماأكثر الأخطاء..
ساد الأرض ظلام خفيف ولم تعد الشمس تنظر اليه من بين فتحات الغيوم، فقال لنفسه يبدو أن دوام الجميع قد انتهى.. وقرر أن يقفل راجعاً الى البيت ليعود في اليوم التالي ويبحث عن المكان الذي يذهب اليه بتلك الاستمارة ..ولكن لما لم تلح له من مكان قريب فتحة للعودة ، فأنه راح ينزل اللعنات على الذين عبدوا هذا الطريق واعتبروه خارجياً جاعلين فتحات الجزرة الوسطية التي تستدير به الى الخلف متباعدة عن بعضها البعض بمسافة عشرات الأمتار حفظاً على سلامة السير السريع وانسياب الحركة......................إذن، قال لنفسه سأسير في أثر اللافتات الصامتة حتى أصل الى العنوان الصحيح هذا اليوم ،ثم أقصده في اليوم التالي بلا حاجة للتوقف او السؤال مرة أخرى.
اللافتات أصبحت تثرثر من جديد واحدة تقول له هذه كلية الزراعة، وأخرى تقول هذا مركز للبحوث والدراسات، وثالثة تقول هذا معمل للحليب، ثم مزرعة للدواجن، ثم جمعية لرعاية عوائل الاسرى والشهداء، ثم أرض زراعية يتفرع بالقرب منها طريق ملتو يعود الى برية شاسعة كثيرة الحصى تذكر أنه قصدها ذات يوم لاستلام سيارة جديدة ،باعها بسعر غال واشترى سيارة أخرى بدلاً منها بثمن بخس وقطعة أرض بما تبقى من الفلوس..
إذن.. ماذا تبقى من هذا الطريق الذي دلَه عليه موظف الاسواق المركزية وهو يحك صوان اذنه بمقبض نظارته الطبية قائلاً له اذهب بهذه الاستمارة إلى جرف ناء يقع ما بعد نقطة السيطرة بقليل فمن هناك يكون استلام مواد البناء والانشاءات .. ولكن فتحة الاستدارة لا زالت بعيدة.. والظلام اشتد أكثر.. ولم يعد بامكانه تمييز اللافتات عن بعضها البعض.. فشعر أن الوقت مضى بسرعة غريبة.. وان المغرب قد حان مع اشتداد البرد ثم أخيراً لاحت له فتحة الاستدراة في اللحظة التي رأى فيها رجلاً يجلس قرب بوابة كبيرة تحف بها أشجار كالبتوس عالية تخفي ماوراءها وتتقدم طريقاً فرعياً خالياً يبدو أنه يقود الى مكان ما من تلك الامكنة التي تسلم للناس عددهم وكهربائياتهم وموادهم الانشائية، والتي غالباً ماتكون مواقعها عند أطراف المدن خاتلة في أزقة خلفية تنزوي عن الشوارع الرئيسة بمسافات ودروب وعرة..
رفع الرجل استمارته مرة أخرى وأخرجها من نافذة السيارة ثم صاح على حارس البوابة سائلاً:
- هل هذه دائرة؟
ضحك حارس البوابة ولم يجب.. استغرب حامل الاستمارة ضحكه.. ثم أعاد سؤاله عليه:
- ما هذه الدائرة؟ هل هي مخازن لتسليم الاجهزة الكهربائية؟
قال حارس البوابة:
- هذه ليست دائرة.
قال له حامل الاستمارة:
- ماذا اذن؟
نهض حارس البوابة واقترب من نافذة السيارة.. ثم أصبح قريباً جداً منها وقال وهو يضحك:
- إنها مخازن للاستلام لا للتسليم..
كان نحيفاً جداً... وبدا بقرب النافذة أكثر شباباً مما هو عليه وهو جالس قرب البوابة.. فقال له حامل الاستمارة وهو يعيد الاستمارة الى مكانها خلف المقود:
- يبدو أني أخطأت العنوان.. كنت أبحث عن..
فقاطعه حارس البوابة وهو يرمي يديه باتجاه سياج المخازن الذي كان يحاذي سياج المقبرة من الخلف ..وقال وهو لايزال يضحك:
- أياً كان ماتبحث عنه.. هذا هو العنوان الصحيح.